بقلم د. عبدالوهاب الأفندي
أشرنا في مقال الأسبوع الماضي حول العلاقات السودانية-الأمريكية إلى دور الرئيس تابو امبيكي (رئيس لجنة الاتحاد الافريقي عالية المستوى حول السودان) في الضغط على الدول الغربية للمساهمة في دفع الحوار السوداني-السوداني، وأخذ تعهدات منها بتقديم حوافز لأطراف الصراع للانخراط بجدية في العملية السياسية. ويستند امبيكي في هذا إلى رؤية لحل شامل للأزمة يتطلب تنازلات من الجميع من أجل توافق على أسس للتعايش المشترك على أسس مواطنة متساوية، ومشاركة في بناء وطن حر ومزدهر لفائدة كل مواطنيه. وهذا يعني انخراط الجميع في حوار بناء ومخلص، ونبذ العنف، وقبول الجميع بالعمل السلمي المشترك لتحقيق الغايات المتفق عليها.
من هذا المنطلق كثف امبيكي سعيه لتأمين إنهاء العقوبات الاقتصادية (الأمريكية في الأساس) على البلاد، وذلك لهدفين: الأول تقديم حافز للنظام للانخراط بجدية في الحوار؛ والثاني، وهو الأهم، أن إنهاء هذه العقوبات لمصلحة كل السودانيين الذين زادت هذه الإجراءات من معاناتهم بدون تمييز. ولكن هذا المقترح واجه إشكالات عدة، من أبرزها أن السودان تلقى في الماضي وعوداً جازمة أكثر من مرة (في نيفاشا 2004 ثم في أبوجا 2006)، ليس فقط برفع العقوبات، وإنما بتقديم دعم سخي لإعادة البناء. ولكن أيا من هذه الوعود لم تنفذ.
لهذا طالب امبيكي تعهدات المسؤولين الغربيين بعدم الاكتفاء بإعطاء تعهدات جازمة هذه المرة برفع العقوبات، بل باتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه، والتواصل مع الحكومة السودانية لهذا الغرض. وبالفعل تتابعت الخطوات من الدول المعنية، حيث اتخذت الولايات المتحدة خطوات عملية لرفع بعض العقوبات أو تخفيفها، كما كثفت الحوار مع النظام. وكان هذا بناء على تأكيدات من امبيكي وفريقه بجدية النظام واستعداده للتجاوب مع جهود الوساطة. ببساطة، إذن، الخطوات الغربية لا تعني تغيير الموقف من النظام، وإنما ثقة في تقييم لجنة الاتحاد الافريقي للأوضاع هناك، ودعماً لجهودها. بدوره لم يبذل الرئيس امبيكي هذه الجهود إلا في إطار رؤية متكاملة لمعالجة الأزمة السودانية، وتفاؤلاً بالتجاوب مع مساعيه.
قد يرى البعض، وأنا منهم، أن الرئيس امبيكي متفائل وحسن النية بمحاوريه أكثر من اللازم. فقد وصف أطراف الصراع في رسالة بعث بها بأنهم «وطنيون صادقون»، يجمعهم الحرص على مصلحة البلاد، ولا تحركهم دوافع ذاتية أو طائفية أو مناطقية، وإنما هم يسعون لخير كل أهل السودان بدون تمييز. وكلهم مقتنعون بأن حل الخلافات بينهم إنما يتأتى بالحوار الجاد المخلص، ومصممون على الانخراط فيه بدون أجندات خفية. ويضيف امبيكي أن هذه الأطراف تعترف بشرعية بعضها البعض كقوى سياسية سودانية، وتقبل بشرعية مطالبها، ولا تريد إذلال أو إقصاء أي طرف.
وقد علقت حين سمعت بهذه الأوصاف: ليتها كانت حقيقية، وإذن لما كانت هناك حاجة لوساطة خارجية، ناهيك عن حرب واحتراب! ولا أعتقد أن امبيكي من السذاجة بحيث يصدق أن هذا هو حال الأطراف المتنازعة في السودان، ولكنه، كحال الواعظ الذكي، أراد أن يحرجهم بتذكيرهم بالقيم والمثل التي يتشدق بها بعضهم ولا يلتزم بها إلا لماماً. صحيح أن كثيراً من المتصدين للعمل العام ينطلقون من مثاليات كالتي عددها امبيكي، ولكنهم يتنصلون في معركة البقاء من كثير منها. وكنت قد حذرت من هذا الخطر في أول مقالات نشرت بعد انقلاب يونيو، منوهاً بأن معظم الأنظمة «الثورية» تواجه الخيار بين التذلل للخارج (العمالة) والتذلل للشعب (الديمقراطية)، وأن الخاسر من اختار الأول.
لسنا هنا بصدد إعادة القول في خيار النظام السوداني الذي يدعي الاستقلالية، ثم يهلل إعلامه لزيارة لا معنى لها لعدد من كبار مسؤوليه للقاء صغار المسؤولين الأمريكيين، ويتنقل من عاصمة إلى عاصمة توسلاً لحل لمشاكله الداخلية. ولكنا نريد أن ننوه بصورة عامة إلى عقبات كبرى تحول دون تبني الأهداف السامية والوسائل النبيلة بحسب تمنيات امبيكي. فمجرد قيام نزاع سياسي، خاصة المسلح، يخلق أطرافاً لها مصالح تتميز عن المصلحة العامة، وتتناقض معها: مصالح شخصية للزعماء في البقاء في مواقعهم، والحفاظ على مكاسبهم او الاستزادة منها، ومصالح للجماعات والحركات في الحفاظ على كياناتها ومكاسبها.
ولنكن في غاية الصراحة والصدق مع أنفسنا. فقد يكون للرئيس السوداني حرص على مصلحة الوطن وقوته وازدهاره، لأن هذا أيضاً يعزز موقعه. ولكنه أثبت في غير مرة أنه قد يضحي بهذه المصلحة، وكذلك ما زعمه من مصلحة للإسلام والمسلمين، لو تعارض مع موقعه في السلطة أو مصالح المقربين منه. فلو أن سيادته أوفى بوعده في عدم الترشح، وسمح ببناء نظام ديمقراطي عبر الحوار، فإن السلم سيعود إلى البلاد، وسترفع العقوبات وتنهال المعونات لإعادة البناء. بل إنه حتى لو بقي ورضي تقاسم سلطاته مع بقية القوى السياسية، لتحقق ذلك. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن قادة الميليشيات الذين يتمسكون بقيادة حركاتهم حتى الموت، ولا يقبلون الوحدة مع حركات أخرى، بل ينشق بعضهم من أجل الزعامة، ولا يهمه قتل الأبرياء أو معاناتهم. فكل هؤلاء يغلب مصلحته وحركته وقبيلته على كل اعتبار آخر.
ضرورات الاختصار تفرض تلخيص الأمر في نقاط قليلة، بدءاً بالتسليم بميل جل الفاعلين السياسيين إلى تغليب المصلحة الأضيق على خلاف ما نتمنى ويتمنى امبيكي، وهي حقيقة على الوساطة أن تضعها في الاعتبار وتتعامل مع الواقع. ثانياً، لا يمكن تحميل الوساطة فوق ما هو ممكن. فامبيكي ليس حاكماً للسودان يأمر فيطاع، وليست لديه جيوش يرسلها لفرض حل على الفرقاء. وغاية ما يستطيعه الاستماع إلى الأطراف وبذل قصارى جهده في تقريب وجهات النظر عبر تفكير خلاق استناداً إلى خبرته السياسية الطويلة، ومستعيناً بآراء وخبرات ومشورة أهل النظر وأصحاب القضية.
ويجب أن أعترف هنا بأنني دائماً ظللت أكثر تشاؤماً منه، لأنني ازداد اقتناعاً في كل مرة بأن قادة النظام في السودان عاجزون عن التصرف بسعة أفق ورؤية مستقبلية. ولن يتأتى حل سلمي ما لم تكن هناك قيادة واثقة وقادرة على اتخاذ القرارات الشجاعة للتغيير. ولكن القيادة لا تفتقد الثقة فقط (بدليل اللجوء إلى تكميم الأفواه وتزوير الانتخابات، بل وإلغائها كما حدث في إلغاء انتخاب الولاة)، بل هي كذلك تساهم في تقويض أسسها بإضعاف الحزب الحاكم عبر الصراعات والتفكيك والسياسات الخرقاء. ولكني ظللت أمسك عن نقل تشاؤمي إلى لجنة امبيكي، حتى لا أكون من المخذلين، خاصة وأن الفريق ظل يدهشنا في كل مرة باختراقات جديدة، كما حدث في الطريقة الذكية التي أنجز بها اتفاق أديس أبابا في أيلول/سبتمبر الماضي. بل بالعكس، ظللنا نشجعهم على الاستمرار، عسى ولعل، ولأننا نعلم ان إنهاء مهمتهم سيعيدنا إلى المربع الأول، ويفتح أبواب التدخل والعقوبات والتأزيم بأكثر مما هو قائم الآن.
إن الأصل في الأمر هو أن يتصدى السودانيون بأنفسهم لهذه المهمة. بل إن النظام يستطيع أن يحل المسألة في لمح البصر، عبر اتخاذ قرارات حاسمة لإصلاح الأوضاع وفتح أبواب المشاركة الحقيقية. ولكن إن عجزوا، فلا مناص من مساعدة من أتى لمساعدتهم او الاجتهاد في تقويض مهمته.
المصدر : جريدة القدس العربي
تصنيفات :
كلمات و مفاتيح :
almustagbal.com